مستشار شيخ الأزهر الأسبق: التصوف الحل الأمثل للخروج من حالة التردي

د. محمد مهنا
د. محمد مهنا

حوار: عامر نفادى

إن التربية التى وضعها أئمة الصوفية تقوم على العمل الصالح  الذى يقوى الجانب الروحي، ويعمل على كبح جماح شهوات النفس وملذاتها فيفسح المجال للفكر أن ينطلق عبر مجالاته، فالتصوف  بمعناه العام هو تلك النزعة العالمية التى وجدت مع الإنسان منذ القديم، والتى كان أساسها هو الزهد فى الدنيا والتخلى عن شهواتها. والتصوف بهذا المعنى لا يقتصر على أمة بعينها ولا حضارة بذاتها. فقد وجد التصوف فى العصور القديمة بين أهل الديانات الأخري.

فما هو التصوف؟ ومن هو الصوفي، وهل نحن بحاجة إليه، ومدى تأثيره فى حياتنا؟

بداية سألناه عن ماهية التصوف ومن هو الصوفى ؟

التصوف باختصار هو علم فقه المعرفة بالله عز وجل، قال تعالى (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وقال ابن عباس أى إلا ليعرفون، فماذا جهل من عرف الله وماذا عرف من جهل الله، فحقيقة العبادة معرفة الله تعالى، فالصدق فى العبادة والطاعة ومجاهدة النفس الأمارة منهج ربانى غايته الوصول لمعرفة الله تعالى، لذلك قال الإمام زروق أن التصوف هو صدق التوجه إلى الله تعالى.

اقرأ ايضاً| تكريم الإسلام للمرأة

أما «الصوفى» فقد عرفه لنا شيخنا الإمام محمد زكى الدين إبراهيم رضى الله عنه بقوله «الصوفي» : هو المسلم النموذجي، المتحقق بأحكام الكتاب والسنة، فهو عند تعامله يكون بدنا مع الخلق، وروحا مع الحق، ويعلم جيدا أن العمل مع الغفلة خير من الغفلة عن العمل، وهو مندمج فى موكب الحياة الزاخر بالجد وبالمجد، والعمل الروحي، والعمل الحضارى الخالد، والصوفى قائم بربه على قلبه، وقائم بقلبه على نفسه، وقائم بنفسه على من يليه.

فالصوفى جامع لكل وصف سنى جاء به القرآن، كقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) وقوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

إذا هل نحن بحاجة إلى التصوف؟

نعم فلا مخرج لما تعانيه البشرية إلا بالرجوع إلى التصوف، كمنهج أصيل للإصلاح، والنهوض بالدعوة الروحية، كأساس لإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، خاصة فى زمن طغت فيه المادية حتى غمرت حياة الناس فى مختلف طبقاتهم وأعمالهم وعقائدهم وأوطانهم، ولقد أصيبت الحضارة الإسلامية فى مقتل يوم أن غفلت عن التصوف فى حياتها وواقعها، فتوقفت علوم الدين عند ظاهر الرسوم من أعمال الجوارح والظواهر دون حقيقتها من أعمال القلوب والسرائر، وتوقفت علوم الدنيا عند ظواهر الطبيعة وعوارضها والاستغراق فى تفصيلاتها وهوامشها دون النفاذ إلى حقائقها والتعرف على أصولها ومبادئها.

وقد أنتج ذلك آثارا سلبية خطيرة على كافة الأصعدة الدينية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية من خلل حاد فى المعاملات، وانحطاط فى الأخلاق، وتدهور فى القيم، وتعصب فى الرأي، وتطرف فى الفكر، وانفلات للعنف، وغير ذلك الكثير، الأمر الذى أدى إلى انتكاس المجتمعات العربية والإسلامية فى العصور الحديثة، انتكاسا أحدث شروخا جسيمة وانفصامات حادة فى الشخصية الحضارية للأمة، مما جعلها تعيش حالة تخبط وتبعية على مدى عقود طويلة.

من هنا فلابد من العمل على استعادة الحياة إلى الحضارة الإسلامية مرة أخرى، بالكشف عن الأبعاد الغيبية، والوقوف على النواميس الكونية للعلوم كافة طبيعة كانت أم إنسانية، فما من حكم فى عالم الشهادة إلا ويستند إلى أصل فى عالم الغيب، وما من قانون فى عالم المادة إلا وهو محكوم بقوانين عالم الروح يدور معها وجودا وعدما، وما من ظاهر فى عالم الطبيعة إلا وهو انعكاس لحقيقة فيما وراءها.

هل أمرنا الله تعالى بالتصوف؟

نعم أمرنا بذلك فى قوله تعالي:» وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ» (آل عمران: ٧٩).

فالربانية عندنا هى التصوف كما قال شيخنا الإمام محمد زكى الدين إبراهيم، فهى فى الآية علم ودراسة، ومقتضى ذلك العمل، والعمل الصحيح.

والتصوف هو الربانية، وهو التقوى، وهو التزكية، وهو الخلق، ومن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى التصوف، وبالتالى زاد عليك فى الإنسانية، فنفع وانتفع، وأدى رسالة البشرية بروح سماوية عالية، وعاش بين الناس بالحب، إذا فالتصوف دعوة إلى الحب الذى فقده الناس، ففقدوا من بعده الحقيقة الإنسانية فى الأجساد البشرية.

إذا كانت الدعوة الروحية الصوفية هى أساس إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع.. فكيف ننهض بهذه الدعوة؟

النهوض بالدعوة الروحية الصوفية يتلخص فى عدة أمور منها: ترشيد التصوف ورد الممارسات الصوفية إلى صحيح مفاهيم الكتاب والسنة، بفهم العلماء العاملين من السلف الصالح دون إفراط أو تفريط، مع السماحة وسعة الأفق فى الفهم والأداء ودون اعتبار لرسوم أو تقاليد مخالفة لهذا النهج، فالرسمى ما رسمه الله والشرعى ما شرعه الله والعرفى ما عرفه الله.

فضلا عن توجيه الطاقات الإيمانية لجماهير الأمة فى ربوع العالم الإسلامى كله نحو البناء والإصلاح على المنهج الربانى الروحى الأصيل بدلا من الهدم والتفريق والتكفير الذى تنهجه بعض الجماعات المتطرفة، لأن الدعوات الهدامة، والأفكار الخبيثة، والحركات الإرهابية لا تقوم إلا فى غفلة من وازع الروح وغيبة المبادئ والقيم، ولا تختل الموازين الاجتماعية والقيم الأخلاقية إلا حين تختل العقيدة وتزيغ الكفايات الروحية.

أيضا لابد من ترسيخ الجانب العلمى لدى قطاعات عريضة من المجتمعات الصوفية، ومن ثم تمكين التصوف كمنهج ربانى متأصل فى الأمة من استعادة منظومة القيم الخلقية والروحية إلى الشارع الاجتماعى والسياسى والاقتصادى باعتباره منهجا معبرا عن روح الوسطية التى ظل ملايين الصوفية يمثلونها تمثيلا صادقا عبر قرون طويلة، قبل أن تبتلى الأمة بهذه التيارات المنحرفة التى مزقت الأمة، وأثارت فى ربوعها الفتن والقلاقل.

كما يجب علينا إيقاظ وإنقاذ الحضارة الإسلامية من مستنقع المادة التى طغت قوانينها بحكم الزمان على كل مناحى الحياة بجميع صورها ومستوياتها وذلك بردها إلى أصولها الروحية ومناهجها الربانية، من خلال استلهام الأعماق الروحية والأبعاد الصوفية للعلوم المختلفة خاصة الحديثة منها، بهدف ربط الشهادة بالغيب، والملك بالملكوت، والمعقول بالمنقول، والمادة بالروح، والطبيعة بما وراءها، لأن التعرف على الحقائق شرط أساسى لضمان شرعية أى نظام سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا.

أيضا لابد من ضبط وإعادة التوازن فى العلاقات المختلة بين الأمة وغيرها من الأمم المتقدمة فى الغرب بفعل تفوقه فى مجال الصناعة والتجارة والمال فى عصر فرضت فيه العناصر المادية باعتبارها وحدها القادرة على توجيه دفة الأمور والتأثير فى الحوادث التاريخية دون الالتفات إلى الإفلاس الروحى والخلقى الذى تعانى منه هذه المجتمعات بما يهدد حضارتها تهديدا حقيقيا فيما أثبته المحققون من مفكريهم.

كل ذلك يصل بنا إلى حقيقة مؤكدة وهى أن  استثمار التصوف وترشيده باعتباره رأس المال الطبيعى المتأصل فى الأمة سوف يكون أجدى وأنجح من محاولات كثيرة تتسم بالاندفاع دون رؤية للحاق بقطار المادية الرأسمالية مع ما يقتضيه ذلك من أثمان باهظة تنفق من المبادئ الثابتة والقيم الأساسية للأمة، لأن تحقيق التقدم المادى فى حاجة إلى جرعة روحية تعصمه من الإفراط والتفريط.

الصوفية يهتمون بإحياء ليلة المولد النبوى الشريف.. فهل هناك دليل على مشروعية هذا الاحتفال؟

من المعلوم والمقرر عند علماء الشريعة أن كل عمل يعود على المجتمع الإسلامى بالخير، ولا يخالف نصا صريحا فى الدين ولا معلوما من الدين بالضرورة، لا يمنعه الإسلام، فإن هدف الإسلام هو صالح البشرية أولا وأخيرا.

ولما كان الأصل فى إقامة الموالد هو الاعتبار بسيرة صاحب المولد والانتفاع بذكراه، وانتهاز فرصة التجمع للتعارف والتعاون على البر والتقوى، والانصراف إلى الله بذكره والتعبد له، والاستماع إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتعرف على أخلاق صاحب الذكرى، لما كان ذلك كذلك، ندب الإسلام إلى إحياء هذه الليالى المباركة، ولم يعرف فى تاريخه من أنكر على إقامة الاحتفالات لإحياء ذكريات الصالحين.

ويمكن الاستئناس فى الندب إلى الاهتمام بهذه الذكريات لما جاء فى سورة مريم قوله تعالى :» وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً» الآية ١٥، وقوله تعالى «وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً»الآية ٣٣.

فتخصيص يوم ولادة النبى بالذكر وطلب السلام دلالة على كرامة هذا اليوم على الله.

ولقد قال الله تعالى فى سورة إبراهيم «َذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» فمولد النبى الكريم من أعظم وأجل الأيام عند الله سبحانه وتعالى، ولقد كان رسولنا يحيى بشخصه ذكرى مولده فى كل أسبوع مرة، لا فى كل عام مرة، وذلك أنه كان يلازم صيام يوم الاثنين، فسئل فى هذا فقال: «هو يوم ولدت فيه» فكان صومه لهذا اليوم شكرا لله نوعا من إحياء ذكرى مولده، وتوجيها إلى منزلة هذا اليوم، وحثا على الاهتمام بشأنه.

كيف يكون الاحتفال بالمولد النبوى الشريف وبذكرى الأولياء والصالحين؟
الاحتفال بذكرى مولد النبى يجب أن يكون بقراءة سيرة وشمائل نبينا، وبعقد مجالس الذكر للصلاة عليه، وقراءة الأحاديث النبوية وكتب السنة وتعريف الناس بالتراث العظيم لأحاديث المصطفى، كذلك الاحتفال بذكرى الصالحين يكون بتعريف الناس بسيرة هذا الرجل الصالح، وبقراءة مؤلفاته وإبرازها للناس، وبيان جهوده فى الإصلاح ونفع البشرية، والترحم عليه وزيارته.